نداء الكروان .. بين العلم والأدب

عند الأصيل ، ينساب صوت جميل ، مهيب ، عميق ، إلى أذنى .. صوت طائر يطير بعيدا فى الهواء ، فيخيل إلى أن الصوت قد جاء من صميم السماء ، ليفك طلاسم الكون وأسرار الوجود ، ويتردد الصوت مرة أخرى فى الليل ..فى الهزيع الأخير منه ، عند الفجر ، فأظن أنه حكيم يروى أخبار أمم طواها الزمن ولفها ظلام النسيان فانقطع عنها الخبر ، يروى فربما نستخلص منها الحكم والعبر .. وفى فجر سمعته فأيقنت أنه ليس بصوت حكيم فى هذه المرة ، إنما هو صوت راهب معتكف فى صومعته ، يتلو صلاة ويسبح ، فتتجاوب معه كائنات ومخلوقات الكون.
وعشقت الصوت ، دون أن أعرف صاحبه ، فكنت انتظره عند كل أصيل وفى كل ليل ، حتى اسمع تراتيله وتسبيحاته ، واستمع إلى حِكمه ورواياته ، حتى بلغ منى الفضول مبلغه ، وغمرنى شغف كشغف المسافر للعودة إلى وطنه ، لأعرف الصوت وصاحبه ، وهل من الممكن حقا أن يخبرنا الطائر بشىء من المعانى السابقة ، هل لصوته دلالة ما .. ؟؟!! فذهبت أقلب فى الأوراق والكتب ، لعلى أقرأ شيئا عن هذا العالم الذى يخلقه لى طائرى الحكيم فى كل ليلة ..
وقد عرفت أنه الكروان، وبين أوراق الأدب، وجدته قد ألهم العقاد بديوان شعر سماه (هدية الكروان) ، على سبيل أنه سمع ندائه وتأثر به، ثم ترجمه شعرا، وفى هذا كتب العقاد بعد أن سمع أغانى الكروان : (( بتٌ أصغى لها ، وأقبس منها .... ثم ترجمتها لمن شاء شعرا ))
وقد ألف العقاد ديوانه هذا بعد عشرين عاما على تأليف قصيدته النونية ، وكانت عن الكروان أيضا ، وإذ به يستمع إليه بعد كل تلك السنين، فيجد الجديد فى ألحانه وأغانيه، فقام بوضع الديوان الكامل عنه، وسماه هدية الكروان لأنه كان بمثابة الهدية من الكروان إلى العقاد، وقرأت فى الديوان تحت قصيدة الليل ياكروان :
الليل ياكروان ... فأين منك البيان ؟
ليل الطبيعة صمتٌ ... وأنت فيه لسان


وظلمة الليل سرٌ ... فاقرأه ياترجمان
ووجدت عميد الأدب العربى طه حسين ، قد كتب رواية وسماها (دعاء الكروان) ، وقد جعل الطائر يشترك مع بطل الرواية فى الأحداث، فكانت المناجاة بينهما عندما يأتى الليل، ويسكن الكون، وتنام الحياة، فتنطلق الأرواح آمنه لا تخاف، وهو يشبه صوت الطائر بصوت روح من هذه الأرواح .. وقد شهد الكروان على حادثة إثم ومأساة قتل، قتل إنسان برىء، شهدها مع بطل الرواية ، وكانت تلك الحادثة بمثابة قلب الرواية ، فكانت ألحان الكروان وأغانيه محور من محاور الرواية ..
هكذا كان الكروان فى الأدب ، استمع إليه العقاد وعميد الأدب ، فما كان منهما إلا أن كتبا رواية وشعرا ، فى الشعر كان الطائر هو لسان ليل الطبيعة الصامت ، وترجمان ظلام الليل.. وفى الرواية كان روح من عالم الأرواح التى تهيم فى الكون ، وفى الظلمة والسكون ، ليشهد على آثام الإنسان وظلمه لنفسه .. وعندما فتحت كتب العلم، وجدته أنه فى إطلاقه لصوته لا فرق بينه وبين باقى الطيور ، وإنما الإختلاف هو فى ألحان ومقاطع الأصوات ذاتها، تختلف من نوع إلى نوع آخر على مستوى أنواع الطيور العديدة المدهشة ..!!
فأمة الطير كلها ، تصدر أصواتها بواسطة الهواء القادم من رئتيها (lungs) ، فالجهاز الصوتى عند الطير والإنسان معا مرتبط بالتنفس والجهاز التنفسى، هذا ما قاله علماء الطيور، فالقصة تبدأ من أعلى من المخ (Brain)، فهناك منطقة فى المخ تعطى إشارة عصبية إلى الرئتين، فتقوم الرئتين بإطلاق هواء الزفير ، وبخروج هذا الهواء منها .. فإنه يصطدم بالعضو الصوتى مباشرة لدى الطير Syrinx) _ وهذا العضو هو الحنجرة عند الإنسان _ وهو محاط بكيس من الهواء ، ومشدود بعضلات وأوتار ، فعند اصطدام الهواء بهم ، يحدث اهتزازات (Vibrations) للعضو الصوتى والأوتار، فتخرج الإهتزازات من الفم على صورة الصوت .. ويسبح فى الهواء ، على هيئة موجات ، حتى تصل إلى أذن الإنسان ، فيجمعها الجزء الخارجى الظاهر من الأذن، أى الأذن الخارجية، وتقوم الأذن بتكبير هذه الموجات عدة مرات، ثم تدخل لتصطدم بطبلة الأذن، فتهتز بدورها، فتنطلق الاهتزازات الى الخلايا العصبية التى ترسل إشارتها إلى المخ، فيحللها ويدرك الإنسان الصوت، ونسمع هكذا ألحان الكروان وأغانيه .. هكذا سمعه العقاد وعميد الأدب، سمعا ألحانه وهى تحكى أسرار الليل والطبيعة والأقدار ...
على أن الأمر لا ينتهى عند ذلك ، فعلماء الطيور أخبرونا أن الطيور تتحدث مع بعضها ، بأصواتها تلك وتتفاهم فيما بينها، فالطيور تنطق كما ينطق الإنسان، فقاموا بتقسيم نطقها هذا إلى قسمين : الأول هو النداءات (Calls) ، أما الثانى فهو الأغانى (Songs) .
فالنداءات تكون قصيرة ، ولها وظائف محددة فى حياة الطير ، وهى فطرية أى لا يحتاج الطير الصغير أن يتعلمها من أبويه ، وهى تنطلق من فم الطائر عند التعرض لهجوم ما من العدو ، فتكون هنا تحذيرية من الأخطار التى تتربص بالطير ، وتنطلق أيضا للمحافظة على المجموعة وعدم التفرق ، وذلك أثناء الهجرة ، فالطيور تهاجر فى أسراب على مدار فصول السنه، وتقطع آلاف الأميال فى الهواء، فهى تطلق نداءتها عندما يشذ طائر منها عن السرب الذى ينطلق .
والأغانى يكون نصيب الذكور منها أوفر من الإناث، لأن الذكر يشدو ويغنى فى موسم التزاوج ، ليجذب الأنثى له ويلفت انتباهها إليه، وتتغير أنشودة الطائر تبعا لحالته الإجتماعية ، فهو إذا كان متزوج أصلا ، فإن أغانيه تأتى أضعف وأقصر من الآخر الأعزب ، الذى يبحث عن شريك له ..!! فالطائر الأعزب تكون أنشودته طويلة وقوية ، وهو يتحكم فى ذلك عن طريق زيادة ضغط الهواء القادم من الرئتين . بل إن الطيور تعرف بعضها من أغانيها دون أن تحتاج إلى رؤية بعضها ، ويُعرف الطائر من الصوت إذا كان هذا الطائر غريب ، أم هو يسكن فى نفس المنطقة والبيئة التى يعيش فيها الطيور التى تسمعه، ومن هنا يتم التقرير هل تتجاوب معه تلك الطيور بأنشودة منها ، أم يتم تجاهله تماما بالصمت . والأغانى ليست فطرية عند الطيور ، وإنما يحتاج الطائر أن يتعلم أغلبها من أبويه .
كان هذا هو تشريح صوت الطيور وبعض من سلوكها كما كشف عنها العلم، فهى تنطق بما هو ذو معنى ، وتغنى ويكون لغنائها دلالة فيما بينها .. على أن فى الأدب كان للصوت شأن أعمق، وكشف لتلامس بين النداء الكروانى والروح والنفس فى الإنسان ..!! واطلاع للكروان على أسرار للطبيعة.فلازالت هناك فجوة ، فى تفسير العالم المذهل الذى يخلقه لى غناء الكروان !! فأيهما الأصدق هنا العلم أم الأدب ؟؟
وعند أصيل قريب ومع مغيب الشمس، عدت أجلس وأنتظر مجىء الكروان، لأستمع إلى ألحانه وحكاياته مرة أخرى بعد القراءة ، لعلى أدرك منها معانى جديدة، وانطلق الهتاف العزيز من الأفق ، وانطلق مرة أخرى من طائر آخر ، ليقطع الهتاف الأول فى منتصفه .. وتردد مرة ثالثة من هناك ، فخفق قلبى لجمال الصوت وعمقه .. ياإلهى إن هذا لهو السرَ .. سر هذا الأصيل وذلك الغروب ، يخبرنى به هتاف الكروان، لقد أدركه قبل أن يدرك (نيوتن) قوانين الجاذبية التى تمسك بالشمس والأرض .. قبل أن يكتب (كبلر)قوانينه عن الكواكب ومداراتها ..!! وتناهى إلى سمعى صوت شيخ خاشع يرتل قرآنا ، فأنصت جيدا ، فسمعته يقرأ (((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ))) فأصابنى وجوم وذهول ، فها قد تعلم سليمان عليه السلام منطق الطير من قديم الزمان ، علمه ربه ومنَ عليه من فضله ..وعدت أنصت إلى الآيات الكريمة ، فسمعت سليمان عليه السلام وهو يتفقد الطير ويتوعد للهدهد، لأنه غاب عنه بدون إذنه، وإذ بالطائر يأتيه بخبر لا يعلمه، بخبر قوم تملكهم امرأة ويسجدون للشمس من دون الله ..!! ويتحدث الهدهد ويخبر بحكاية قوم ظلموا أنفسهم، ويقول لسليمان عليه السلام مستنكرا ما فعله هؤلاء بأنفسهم ((( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ))) فالهدهد علم أن الله يخرج كل مخبوء فى السماء والأرض !! علم أن الله يحيط بكل ما هو فى العلن وما هو فى الخفاء !!



وتردد صوت الكروان من جديد.. فقلت، أى قصة ترويها أيها الكروان، عن أمم تظلم نفسها كأخيك الهدهد أم تصف الأرواح التى تهيم فى الكون، إن سليمان عليه السلام أوتى فضلا عظيما .. بفهمه منطق الطيور .
وتذكرت ديوان العقاد وقلت أتراه كان صادقا فيما نظم من شعر ، من أن الكروان هو لسان ليل الطبيعة الصامت ؟؟ وتذكرت رواية عميد الأدب الرقيقة، وسألت نفسى أحقا يتصل الكروان بالإنسان كما اتصل بالبطل فى الرواية ..!! من يدرى ..؟؟ ، فالعلم لا يخبرنا بكل شىء ، فتشريح الجهاز الصوتى لدى الطير ، لا يخبرنا بالدلالة الأخيرة للصوت ومعناه ، ودراسة السلوك لا تصل إلى أعماق النفس لدى الطير ، لتعلم دوافعه بالكامل ، فالهدهد قد قطع أميالا طويلة من قديم، ليعود إلى سليمان عليه السلام بخبر القوم الكافرين !! والإنسان ينتج صوتا بنفس الطريقة، وربما يسلك كقديس فى هذه الحياة، مع أن نفسه تكون مريضة ومشوهة !! ويأتى بأفعال مشينة فى الخفاء !! ربما يكون الأدب فى منتهى الصدق بالصوره التى يرسمها ربما يُشكل حقائق شاخصة فى الوجدان ..!! من يدرى ؟؟






بقلم / أحمد فوزي عبد الرازق

3 comments:

  1. مقال رائع
    فهو يحلق بك في عالم الأدب الى افاق بعيدة ورائعة
    وفي نفس الوقت غزير بالمعلومات العلمية الجديدة
    مقال رائع الى أقصى حد

    ReplyDelete