القمح ... والعشب ... والإنسان

لى شغف قديم بالطبيعة .. والكتب ..
ولذا ، فإنى أحببت القراءة فى التاريخ الطبيعى ..
تاريخ النبات والحيوان .. وتاريخ الإنسان القديم .. ومرات كثيرة ، كنت أسأل نفسى .. كيف استقر الإنسان القديم ؟؟ فدائما ، ما كانت تشغلنى البدايات الأولى ، والأصل الذى تنحدر منه الأشياء .. فكيف تكوّن أول مجتمع إنسانى ؟؟ بعدما كان الإنسان قديما يعيش على التنقل والرعى والصيد ، ويعيش منفردا راحلا من مكان إلى مكان ..!!

الإنسان قديما يعيش على التنقل والرعى والصيد

وذات يوم شتوى ، جلست اقرأ فى كتاب ، لعالم موسوعي وُلد فى بولندا ثم هاجر إلى بريطانيا حيث استقر بها ، وعاش فيها ، إنه العالم العظيم "برونوفسكى" ، الذى درس الرياضيات فى بداية حياته ثم انصرف إلى علوم الأحياء بعد ذلك ، والكتاب هو (ارتقاء الإنسان) .
وشرعت اقرأ ما يقوله "برونوفسكى" .. وكان يتحدث عن الإنسان القديم ، وعن الحضارات القديمة .. وكيف استطاع هذا الإنسان الإنتقال من مرحلة البداوة إلى مرحلة الزراعة وتأسيس القرية .. واستغرقنى الكتاب أكثر ، فهذا تحديدا هو ما كنت افكر فيه طويلا ، وقبل أن يشرح "برونوفسكى" الأسباب التى أدت إلى ذلك بشكل مفصّل ، مهّد بهذه الجملة المثيرة : " لقد حدث ما حدث بسبب تصرف غريب خفي من جانب الطبيعة " !!
وقد بدت السماء الرمادية غامضة مخيفة !!
وتوقفت عند هذه الجملة ، ورفعت رأسى عن الكتاب ، أتأمل سماء الشتاء الممتلئة بالسحب الداكنة ، وقد بدت السماء الرمادية غامضة مخيفة !! ولا أدرى لماذا صار هذا المشهد وكأنه برهانا على جملة (برونوفسكى) السابقة !! ثم عدت إلى القراءة متلهفاً .. لعلى أعرف هذا التصرف الغريب من قِبل الطبيعة .. وبدأ يشرح (برونوفسكى) ، فلقد أوضح أن اكتشاف الإنسان للزراعة وتأسيسه للقرية ، قد ارتبط بظهور نوع من القمح هو القمح الهجين Hybrid wheat)) وظهور هذا القمح فى حد ذاته كان عجيبا ..!! فقد كان القمح فى بداية ظهوره كالأعشاب البرية ، التى تنبت من الأرض بدون زراعة لها ، وكان الإنسان أيضا فى هذا الوقت لم يتعلم الزراعة ، فكان كل ما عليه هو أن يحصد هذا القمح فقط .
حتى حدثت أول طفرة وراثية لهذا القمح البرى ، فقد حدث له تهجين مباشر مع كلأ الماعز الطبيعى - وهو العشب الطبيعى – لقد اندمجت الكروموسومات الوراثية للقمح البرى مع الكروموسومات الخاصه بكلأ الماعز ، مما أدى إلى انتاج قمح جديد تضاعف عدد كروموسوماته الوراثية ، فصارت حبته أكثر امتلاءً ، وقد انتشر هذا القمح الهجين الجديد بشكل طبيعى عن طريق الرياح .. لأن الرياح كانت لاتزال تستطيع حمل الحبوب ونشرها ..
ومع مرور الوقت .. وزيادة انتشار القمح الجديد ، وتكرار زراعته ، حدثت الطفرة الوراثية للمرة الثانية ..!! إذ حدث تزاوج مرة ثانية بين القمح الهجين وبين كلأ الماعز الطبيعى ، وأدى ذلك إلى انتاج قمح هجين جديد أكبر من الهجين الأول .. وتضاعف عدد الكروموسومات مرة ثانية .. ونشأ القمح الجديد الذى يُعرف حاليا بقمح الخبز (Bread wheat) . وهى سنبلة قمح جميلة رائعة تكاثرت فيها الحبوب وتزاحمت .. ولهذا أصبحت غير قادرة على التكاثر بواسطة الرياح ..!! لأن الرياح لم تستطع حملها أصلا ..!!
قمح الخبز

وهنا حدث ما هو أكثر غرابة من كل ما سبق ، لأن هذا القمح الجديد يحتاج إلى من يأخذه وينثره ليجعله يتكاثر .. وكان ذلك هو الإنسان .. الذى نشأت لديه الرغبة فى الإستقرار أساسا ، وبذلك حدث هذا التوافق المذهل بين الطبيعة والإنسان ، فحياة حبة القمح الثقيلة التى أبت الرياح حملها ، صارت تعتمد على الإنسان الراغب فى الإستقرار والثبات ، فتعلم الإنسان الزراعة ، وزرع القمح ليصنع منه الخبز .. وبذلك استقر الإنسان بجانب الحقل الذى يزرعه ، وانخرط فى تكوين بذرة المجتمع الإنسانى الأولى ، بالتعارف ثم التعاون على من جاء يستقر بجانبه .. وببطء بدأت تتكون القبيلة .. حتى صارت شعبا فى العصور التالية المتقدمة .

إحدى قبائل القدماء المصريين القديمة

وهنا توفقت عن القراءة ، ورحت أرتب أفكارى :
أولا : يبدو أن هناك قصد وغاية لسلوك الطبيعة من بداية الأمر بالنسبة لنبات القمح وكلأ الماعز ، فهذا التزاوج المدهش بينهما لم يحدث عبثا ، هناك هدف لابد وأن يتحقق من خلف ما يحدث ..!
ثانيا : الهدف الواضح لما سبق ، هو جعل الإنسان يستقر .. لأن فى هذا الإستقرار دفع لعجلة التطور والتقدم الإنسانى .. ولكى يستقر الإنسان لابد له بشكل مبدئى أن يتعلم الزراعة ويزرع .
ثالثا : غير منطقى تماما ، أن أنسب هذا التوافق السابق إلى الطبيعة ، فالمحرك الذى حرك الأمر كله لابد له أولا من علم بحال الإنسان وتوجهاته وثانيا خبرة تحيط بطبيعة نبات القمح وكلأ الماعز . ولذا فإنى لا أوافق (برونوفسكى) مطلقا على نسبته لكل ما حدث للطبيعة وحدها .
ومرت أيام .. وأنا أفكر فى الموضوع كله .. وفى هذا التوافق السعيد بين الإنسان والطبيعة ، حتى جاء يوما ، وجلست فيه أتلو القرآن الكريم .. حتى وصلت إلى آية أذهلتنى ! قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13) . الحجرات ، إن الله ينسب إليه بشكل مباشر فى الآية الكريمة عملية جعل الشعوب والقبائل من ذكر وأنثى هذا هو الفاعل الحقيقى الذى ابحث عنه ، ويختم الآية بإخبارنا أنه هو العليم الخبير !! فسألت نفسى هل كل ماسبق كان لأن الله هو العليم بأمور وشؤون الإنسان ، الخبير بالتفاصيل البيولوجية للقمح والكلأ ؟! ربما ، إن أسماء الله ، هى صفاته الحسنى ، ومن الصفات تنشأ الأفعال الإلهية ، وبدأت فكرة تنمو بداخلى شيئا فشيئا عن أن الأسماء الحسنى هى مفاتيح أسرار هذا الوجود . وكنت أعلم وقتها أن تفكيرى وبحثى فى هذا الأمر لن يتوقف . وبالفعل لم يتوقف ، وازداد شغفى بالطبيعة أكثر من قبل !!واهتممت أكثر بالإسم العليم الخبير .
28-1-2012
أحمد فوزى

No comments:

Post a Comment